بعد الانتهاء من قراءة كتاب عيسى مخلوف الجديد "عين السراب" ثمة نتيجة يمكن الوصول إليها وهي أن "عين السراب" هو نتاج تجربة حياتية وشعرية وكتابية طويلة. فنصوص الكتاب التي تعبر فوق تخوم الأجناس الأدبية لا تحدد أو توصف بأي منها، تؤسس عبر فضاءاتها للغامض أو الضبابي في العالم أو الذي لا طاقة لنا على معرفته، حيث داخل النصوص لا يقطن الكائن في العالم بل يبدو العالم كأهم قاطن في داخل الكائن نفسه. وبالرغم من أن النصوص تنهض على أفكار حدسية، إلا أنها ليست نصوصاً يتم فيها استعراض الفكر. فالشاعر يتأمل ويتفكر بالمشاعر الداخلية السرية والغامضة التي تكتنف الكائن وتظل أسئلة مبهمة تسيطر عليه طوال حياته ولا يملك جواباً عليها. ولئن اكتنزت النصوص بالشعر، فالشاعر لا يتوخى كتابة الشعر وحده بل يسعى إلى كتابة تأملية تمزج الشعر بالفكر دون أن يغلب أحدهما على الآخر.
يفتتح الشاعر كتابه بنص يخصصه للسفر وتأثيره الأنطولوجي على الذات الداخلية، حيث يعيد صياغتها وينسجها من جديد، مخلخلاً علاقتها بنفسها وبالعالم المحيط جغرافياً وبشرياً، ولا تعود الأمكنة المختلفة سوى مكان واحد هو محل الهجرة والترحال، مكان يظن أنه يقيم في الجغرافيا لكنه يبدو كما لو أنه غير موجود. إنه مكان الوهم، مكان الولادات السفرية الدائمة هرباً من الموت الدائم. ليس السفر كما توحي إليه نصوص الشاعر سوى خديعة للغياب لا أكثر ولا أقل خديعة غير مجدية سوى في إعادة فتح النافذة أكثر فأكثر على شساعة الموت.
يكتب مخلوف عن المكان الأول من دون أن يقف عنده مؤلف نصي، عن الموت، والولادة، والحرب، والسلام، والحب، والشعر، والجمال. يكتب الشاعر وهذا ما يحيل على نهوض النصوص على المفاهيم والأفكار لكن المؤلف لا يشرح ولا يحول نصوصه إلى كتابات تقريرية إنشائية، تحوم وتدور حول الفكرة الأصلية برغم أنه يسعى إلى كتابة أنطولوجية تقبض على نسق كبير من المفاهيم الوجودية التي قد لا يمكن الوصول إليها عبر الحواس الخمس. وبالرغم من إحالة النصوص على الواقع العيني، إلاّ أن الواقع يظل داخل المتن واقعاً نصياً ذا صلة بالواقع من دون أن يكون على علاقة وطيدة به. فالمناخات التي تنتسج داخل النصوص تذهب إلى الروحي منبعاً ومصباً. إذ يظل الضوء الداخلي أو ضوء البصيرة هو عصب النصوص، وليس البصر سوى ذريعة. فما يهم الكاتب هو أن يقول ما لا يقال وأن يروي ما لا يرى كما يشير في مفتتح الكتاب.
يعبر الكتاب عدداً كبيراً من الأمكنة: أمكنة تاريخية، وواقعية وأسطورية، إضافة إلى كمّ كبير من الأسماء. يمكن الإشارة هنا إلى أن الشاعر عندما يكتب المكان يضيف إليه شيئا من الخيال عبر الاستعارات والصور، في عملية أشبه بالتنقيب عن المكان الإنساني. من هنا نفهم ذهابه إلى أقدم ذكريات التاريخ الإنساني، والعالم الخارجي، ووصله الماضي بالحاضر بالمستقبل عبر لغة دينامية واضحة بغاية القبض على الزمن في حركته الدائمة. وهو في حديثه عن الأماكن لا يستعيدها بوصفها أماكن فحسب بل يستعيد عبرها أحلام البشرية جمعاء مجسداً هذه الأحلام عبر هذه الأماكن التي ليست ذات طابع حلمي محض. ويبدو المكان داخل النصوص يؤثر ويفعل أكثر من الشخصيات ذاتها، فيما ذكريات الذات المروية تتحول إلى موجودات حقيقية حية تتنفس.
إن الواقعية الشعرية التي تتبدى داخل نصوص »عين السراب« ليست ذكريات شبحية، ففي تذكّر الشاعر نجد اشتغالاً مكثفاً ليس للذاكرة والخيال وحدهما بل وللبصيرة أيضا، في عملية نصية يتم من خلالها مزج المتناقضات بهدف جعل جمال الأمكنة التي صنعها الإنسان، جمالاً كاملاً غير منقوص... ("حول الهرم"). إنه يعيد بناء وصوغ الأمكنة كاشفاً عن وضعيات نفسية تعتمل داخله، كانعكاس لهذه الموجودات، وهو في سرده وإعادة ترتيبه وصوغه للمكان لا يقع أو يسقط في سرد عقلاني فلسفي ميكانيكي، إنه يقرأ المكان والذكريات المنقولة، ويضفي شفافة شعرية على عناصر المكان. ومخلوف حين ينظر إلى عجائب الموجودات يكتب كمن يقرأ أكثر المناطق سرية في أعماقه، راصداً الأشياء الصغيرة جداً والكبيرة أيضاً.
لا يكتب الشاعر أدب رحلات، كما أنه لا يسعى إلى تسجيل تقرير صحفي عن الأمكنة التي يزورها، رغم كثرتها داخل النصوص. ما يهمه هو الوظيفة المرجعية للغة. فالسرد يظل مكتنزاً بالإيماءات والإشارات، وهذا ما يعني تدميراً للحياد اللغوي الذي قد يستهل به أحياناً بعض نصوصه. وبالتالي نجد أنه انزياح عن التعابير العادية يبعد كتابة مخلوف عن الذهاب إلى كتابة توثيقية، هي أبعد ما تكون من محترفه الكتابي. إن الإيحاءات والإشارات التي تشع من اللغة لا تنقلنا إلى الجغرافيا بل إلى الأبعاد النفسية الفردية للشاعر. وبمعنى أكثر دقة تحيلنا على ذاته المتكلمة "نسافر حتى نبتعد عن المكان الذي أنجبنا ونرى الجهة الأخرى من الشروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولادات لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديات الناقصة. ليكون الوداع مليئاً بالوعود".(ص11.(
إن كثرة الإيحاءات واتساعها في لغة الشاعر ضمن كل النصوص تفيد أن الهمّ غير القليل لمخلوف هو الشعر. وتبدو هذه هي المعيارية التي يمكن من خلالها استبطان أسلوبياته في "عين السراب" خصوصاً وأنه يسعى إلى توليد أنساق لغوية خاصة به، وإلى اجتراح خصوصية نصية تسحب اللغة التقريرية، وتنتقل بالنص إلى مستوى مضموني مميز، ومستوى تعبيري رفيع، يشكل هو الآخر فضاءات متعددة الإيحاءات تفهمنا تعددية المعنى التي تتجلى أحياناً داخل سرده. لا تشكل العناصر التي يتحدث عنها الشاعر في العالم سوى جزء من عناصر تنشد إلى كيانه وجسده، وهي تشكل جزءاً من تعريفه للكائن نفسه. ففي سبر الشاعر لموجودات العالم الطبيعية وغيرها، هدف البحث عن كينونتها المخفية الباطنية. ومخلوف هنا يهمّ في القبض على باطن الظاهر، ليظهر ظاهر الباطن وهذا ما يعود إلى نشاط المخيلة الذي يتوخاه الشاعر. صحيح أن المادة الأساسية للكتاب موجودة في العالم الخارجي إلاّ أن هذا العالم لا يتبدى داخل النصوص واقعياً، بل ينكتب كوجه آخر للجسد. والشاعر الذي يضع العالم الخارجي بأوابده وإبداعاته، ونصبه وموسيقييه، يصوغ نسيجاً عبر بصيرته الداخلية التي يرى من خلالها. فهو يرى إلى السفر، الطبيعة، الألم، عبر عين ثالثة، ويسمع إلى النداءات والموسيقى عبر أذن ثالثة، محتفياً بالمحير والملغز فيما تسوس الكتابة الإرساليات الشعورية الباطنية التي تعبر كل الصور التي يثيرها الكائن داخل النصوص.
يسند الشاعر إلى الأشياء صفات لم تعهدها من قبل، فهو حين يتحدث عن العجائبي يتحدث عنه بوصفه حمالاً لسمات شعرية، فيما الأشياء ليست أشياء إلاّ بالمقدار الذي ترتبط بذاته وجدانياً. يبوح الشاعر بأجزاء من سيرته الذاتية: موت الأخ، لكنه لا يتوقف عند حدود الذاتي، بل ينتقل ليكتب سيرة المكان أيضاً. فهو يبث إشارات كثيفة عن أحداث الدمار والقتل كما لو أنه يصفي حسابه مع رواسب الحرب في الأعماق. يزاوج مخلوف بين المضامين التي يتناولها وبين شكل النصوص التي يكتب بها أفكاره. فهو في إضاءته لجوانب من سيرته الذاتية لا يتقيد بلحظة الولادة، وينطلق منها زمنياً إلى لحظة الكتابة. إنه يخرق هذه القاعدة الأسلوبية موجداً توترات جمالية وفنية تتبدى من خلال أشكال التعبير النصية المتنوعة التي ترتكز عليها هيكلية نصوصه. لا يعير أيضاً أدنى اهتمام للتسلسل الزمني بل يركز على المعاني المبثوثة في تفاصيل قماشته اللغوية، من دون أن ينسى في الآن ذاته الشروط الفنية التي يتطلبها نصه العابر فوق تخوم الأجناس الأدبية. لذا فهو يعمل قارئاً في سيرته الذاتية سفره، ماضيه الشخصي، مختاراً ما هو بؤري منها. إن مخلوف يرسخ لسلطة الكتابة، وليس لسلطة الذاكرة. وهذا ما يتجلى في تنثيره للماضي وتسريده، ومساءلته فكرياً وشعرياً. ويمكن الإشارة هنا إلى أن المساءلة لا تظهر كنوع من استعراض معرفي فكري يتم من خلالها تزيين الخطاب، بل تحضر كشرط نصي وهي هنا لا تقحم إقحاماً، كما أنها لا تظهر فضفاضة عن المقتضيات الجمالية للنصوص من جهة ثانية". "الألم النائم يصحو. لا يأتي الألم من الخارج فقط، وإنما أيضاً من الأعماق، من نار مشتعلة في النفس. رياحه تأتي من كل الاتجاهات. الألم الممزوج بالخوف". (ص59).
يضيء الشاعر الجسد، الجسد القتيل، الأجساد التي تصرخ وتمزق الثياب. وعلى هذا نجد أن مخلوف يذهب الامتدادات التي يمتد إليها الجسد خارج نفسه في الملابس، وجسد الآخر، خصوصاً في حالتَي الصراخ والعويل: "رأيت والدتي للمرة الأولى في حياتي كيف تخرج عن رصانتها وتوازنها فتنتف شعرها المسترسل الطويل وتولول وتمزق ثيابها على مرأى من الجميع فتظهر نتفاً من لحمها الأبيض". يشكل الشاعر فضاءات تحيل على الهوية الثقافية المقتولة للجسد، بالحروب والاغتيالات. من هنا فإن الذاكرة التي يستعيد من خلاها الشاعر الماضي تستحضر الصوت والعويل وكل ما يمت بصلة إلى آثاره. إن الذكريات المسجلة في أعماق الكاتب يبعثها بعد سنين عديدة عبء ذكرى القتل والموت الثقيلة ويسكت عويلها الشاعر عبر كتابتها.
" الذي كان يختفي ساعات طويلة، الصوت الغائر في النفس، حين يُعطى له ويجد طريقه إلى الشفتين، كان يسأل السؤال العاجز ذاته: لماذا". (ص71).
يصل الشاعر الماضي بالحاضر، الموت بالولادة، الحب بالألم، لكن تظل تيمة الطبيعة تعبر أغلب النصوص وتظهر موجودات الطبيعة داخل النصوص أشبه بنماذج حية. والشاعر الذي يرصد المعاني الكامنة في الضوء واللون، ويجعل من العين يداً، من دون أن يذهب إلى التبريرات الأسطورية للطبيعة وعناصرها بل يسعى إلى كشف الإشارات الكامنة وراءها: »أنظر إلى الأشجار شجرة شجرة وإلى الحجارة حجراً حجراً، وأعرف أن تاريخاً طويلاً يجري بيننا، وأن عودتنا إلى الماء الواحد وشيكة«، يظهر الشاعر تلك الوحدة المتناغمة والانسجام الاختلافي للتضادات في الطبيعة، منذ ملايين السنين، وما يخلفه الزمن على المشاعر الإنسانية. يركز الشاعر على قيم النور والعتمة وعلاقة الألوان بعضها ببعض والتناقضات القائمة بينها، داخل الطبيعة التي تتبدى ملؤها الحسية والحركية. ومخلوف في كتابته للطبيعة شأنه شأن الانطباعيين الذين يركزون على الكتلة دائماً، على الكل الذي له فينا أشد الوقع من دون فقدان الانطباع الأول الذي يحرك دواخلنا. لا يكتب الطبيعة رومنسياً، كما أنه لا يكتبها واقعياً، بل يسبر معانيها العميقة في مسعى تسجيل صورتها في تلك اللحظة التي تمر عبر انطباعه »الشربين يغور في صفحته، فيتداخل فيه ليلاً الأخضر الزيتي والبني الغامق ليستحيل مع أشعة الصباح الأولى تموجات من الأصفر الذي بلون القمح". (ص84). لا تقع اللغة في وحول وصفية إنشائية، فالشاعر يكتب عن الطبيعة أشبه بفرشاة توزع الألوان والظلال، في حالة هجاء غير مباشر لمخلفات الحضارة المعدنية الفظيعة، مقابل النقاء والبراءة الكامنين في الطبيعة.
في نص »لحظة سكون« تحضر تجارب المتصوفين المسلمين والمسيحيين الذين يروون سيرهم الروحية، والشاعر هنا يمزج بين المعرفي والفلسفي والفني والروحي من دون أن يضع حدوداً بين العقل والحواس والانفعالات والشعور. من هنا نجد أنه لا يهمل في "لحظة سكون" الوظيفة التعبيرية للغة، كما أنه لا يهمل الوظيفة المعرفية أيضاً مازجاً بين الذات والموضوع فيما الشخصيات الصوفية أقنعة تكشف الرؤية الروحية الداخلية للشاعر نحو العالم والذات: »أتوق إليك ويضيق بي جسدي، يتعثر لساني فأقول ما لا يصلح لقول. حررني من حواسي الخمس واطلقني في رحابك. اجعلني بذرة في أرضك وسحابة في سمائك (ص136).
صالح دياب
)مجلة "نزوى"، العدد 32)