"قدّام باب السفارة الليل كان طويلْ"
لنضال الأشقر وعيسى مخلوف يضحك المرء من الجرح الذي يؤلمه
أمام "مسرح المدينة"، كان الليل. وكان قصيراً، إذ لم نشعر بالوقت داخل المسرح، ونحن نشاهد مسرحية نضال الأشقر وعيسى مخلوف الجديدة. مرّ الوقت بسرعة كبيرة وأردنا لو تكمل المسرحية بفصول أخرى. "قدام باب السفارة الليل كان طويل"، هذا العنوان اختاره كل من المخرجة نضال الأشقر والشاعر عيسى مخلوف لمسرحيتهما التي تعرض منذ الخامس عشر من الشهر الحالي وحتى الثلاثين منه على خشبة "مسرح المدينة". كان الحضور كثيفاً في اليوم الرابع على عرضها، وكانت الأشقر في صالة الانتظار تستقبل الناس وتبادلهم ابتسامتها المرحّبة. فكرة المسرحية تتمحور حول موضوع الهجرة اللبنانية "بصفتها ملحمة يختلط فيها الواقع والمتخيّل، المأساة والنزعة العبثية"، على ما جاء في الكتيّب الذي يعرّف بفكرة المسرحية وبأبطالها ومخرجتها وكاتبها.
يبدأ العرض على خشبة تنعكس في خلفيتها صورة مبانٍ وقمر ليلي شاحب، وعلى الخشبة عشرات الحواجز والمعوقات والبراميل التي يستعملها العسكر في إرساء حواجزهم، أو مثل تلك التي تستعملها الميليشيات والجماعات المسلحة في الأحياء والشوارع، والتي شهدناها بشكل واضح وفاضح في حوادث أيار الأخيرة. يبدأ العرض بعزف ناي حزين، ثم يبدأ شخص، يتبين أنه موظف عند باب السفارة، بتعداد أرقام متسلسلة تعود إلى شبان يقفون في صفّ طويل أمام باب السفارة. ثم يخرج صف الممثيلن على المسرح بعضهم وراء بعض، ينظرون في أيديهم إلى أرقامهم، ويترنحون من تعب الانتظار، وعندما يحين دور متقدّمهم في الصف، يعلن موظف السفارة اقفال باب الطلبات لهذا اليوم. فيبدأ الممثلون بالغناء على وقع أنغام وإيقاعات استخدمتها الأشقر من داخل فريق التمثيل الخاص بالمسرحية. فالموسيقى لم تأت من خارج الأداء المسرحي، ولا مرافقة له، بل من قلبه، حيث يعزف الممثلون مباشرةً الإيقاعات التي يغنونها معاً على الخشبة. وقد استخدمت مجموعة من الآلات الشرقية، من مثل البزق والعود والناي، بالإضافة إلى الإيقاعات المختلفة وأغاني "الراب" الذي يجسد نوعاً من الغناء الشائع بين الشباب في لبنان والعالم، والأنغام اللبنانية التراثية، التي رافقت غناء الممثلين لأغنيات هي خلاصة النص المسرحي، وأبرز هذه الأغنيات، تلك التي غنتها المجموعة في بداية المسرحية والتي تقول فيها: "نحنا المتروكين ع بواب السفارات، زهقت منا السفارات، يا عيني ع السفارات، بتلعب فينا وبتلعبنا، بتاخذنا وبتجيبنا، ذلّ بذلّ بذلّ بذلّ".
يحلّ الليل أمام باب السفارة، وتندلع المعارك بين اللبنانيين في الشوارع، فتعمّ الفوضى على المسرح، وترتفع أصوات القذائف والرصاص، وتمتلئ الخشبة ببراميل النفايات والمتاريس والحواجز، و"يعلق" الشباب أمام باب السفارة، فلا يستطيعون الدخول إلى السفارة، ولا يقدرون أن يعودوا إلى بيوتهم بسبب الوضع الأمني. تبدأ حكايات الشباب والصبايا تتبلور أمام باب السفارة، ويروحون يروونها. إحدى الفتيات تريد الهجرة إلى افريقيا، فتأخذ بتعداد إيجابيات القارة السوداء، وتحكي عن الحياة المترفة والثراء الفاحش الذي سوف تؤمنه لنفسها من رحلتها إلى هناك. ثم يقول شاب إنه يريد أن يهاجر إلى نيويورك، ومثل زميلته، يبدأ بتعداد محاسن نيويورك ومفاتنها، ويتحدث عن الحرية والنساء، وعن "ملائكة أميركا الذين لا يشبهون ملائكة لبنان". ثم تحدثنا فتاة أخرى عن اوستراليا، وعن الثراء والقمح والكونغورو وغيرها من مميزات القارة الأوسترالية. ويروي لنا شاب عن حلمه بالذهاب إلى فنزويلا... وآخر إلى الخليج حيث البترول والمال والذهب والبنزين، فيصيح الشاب الذي يحلم بالذهاب إلى الخليج: "يا خليج أنا قادم إليك"، وطبعاً لا يجيبه الخليج، ولا يذهب الشاب، لأن الهجرة لا تزال حلماً، أمام باب السفارة. تذكّر صيحة الشاب بالخليج، بصيحة بدر شاكر السياب حينما يقول في قصيدته الرائعة "انشودة المطر": "أصيح في الخليج: يا خليج، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى. فيرجع الصدى، كأنه النشيج: يا خليج... يا واهب المحار والردى". يذهب اللؤلؤ في الصدى مثلما تذهب أحلام الشباب أمام السفارة في طول الليل ووسعه. الأحلام كلها يرويها الممثلون على المسرح بلوحات فنية وغنائية راقصة، ترافقها خلفية ملوّنة ومزركشة ترمز إلى البلاد التي يتم الحديث عنها.
تندلع الحرب مجدداً. يختلف الشبان أمام باب السفارة، وينقسمون. يصيرون معسكرين. معسكر "الشين" ومعسكر "السين"، أي الشيعة والسنة. يضاف إليهما معسكرا "الميم" (موارنة) و"الدال" (دروز). وتبدأ المعارك بين الشباب على شاكلة المعارك التي تحدث في لبنان عموماً. الطائفية تلتهم حتى الشباب الذين ينتظرون أمام أبواب السفارات للهجرة. ويروحون يغنون أغنية تعبّر تماماً عن حال الطائفية المستشرية في الوضع اللبناني الداخلي. تقول الأغنية: "لَشو مخبّا بإسمَكْ؟ طْلاعْ طلاع من إسمَك حتى أعرف طايفتَك ".
يستشري الانقسام بينهم، ويغنّون. الغناء يعبّر عن الانقسام بقوة، لكن أيضاً يعبّر عن اليأس والندامة والرغبة بالتخلص من الحالة: "شرقية غربية، مش رح بتروح... بالدم بالروح نحنا رح نروح". ينقسمون، ويهربون من الانقسام بالهجرة إلى الخارج. كلّ يهاجر لأسبابه الشخصية، في الظاهر، لكن الحقيقة تكمن في مكان آخر. ندى أبو فرحات تلعب دور فتاة تريد الهجرة للهرب من وضع البلد، ولطلب حياة أفضل. يلحق بها صديقها الحميم إلى أمام باب السفارة ويسألها عن سبب هربها وسفرها. تجيبه بأنها تعبت من البلد وبأن "الحب بيتعّب هون". يعود صديقها كل يوم إلى باب السفارة ويسألها أن تبقى، لكنها في النهاية تعترف له بأنها لا تحبه، وبأنها لا تزال تحب الرجل الذي لطالما أحبته، والتي فرّقته الطائفية عنها، لأنه من ملّة أخرى. الطائفية هي السبب الأساسي للهجرة، هذا ما تحاول المسرحية قوله. الانقسام في البلد ليس سياسياً وإن صوّر كذلك. يجب عدم الهرب من الحقيقة المؤلمة التي تتمثل في "شرقية غربية مش رح بتروح...". الإنقسام الطائفي لن يذهب. "كل عيلة مقسومة اثنين"، و"برا منحب لبنان أكثر". هاتان الجملتان وغيرهما تقولها المسرحية لتعبّر عن حال البلد وشبابه.
تطرح المسرحية موضوع الهجرة من زوايا مختلفة. تعالج الظاهرة وأسبابها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية... والتاريخية. تعود المسرحية بالزمن إلى الوراء لتضيء على هجرة الأوائل، ثم تعود لتقارنها بهجرة "الجيل الأخير زمانه"، ويمكن أن نجد الفرق بين هجرة الأوائل التي تسبب بها الفقر والعوز والوضع الاقتصادي بشكل أساسي، وبين هجرة شباب اليوم الذين تنخرط أسباب كثيرة ومتنوعة في دوافع الهجرة لديهم، فلا تقتصر فقط على البطالة والفقر. حتى الذين يعملون وحالهم ميسورة، يفكرون في الهجرة. حتى الفنانة المسرحية والنجمة المشهورة تقف أمام باب السفارة، لأن "الدنيا ضاقت بها" ولأن العتمة سيطرت على كل شيء في حياتها.
الطوائف تتناحر وتتقاتل وتتذبّح، ثم... "تفضلوا على الحوار" يصرخ أحد الأطراف، ويصطف الشباب أمام باب السفارة في ثلاث مجموعات ويبدأون بالتحاور. ويخلصون إلى نتيجة واحدة: "متفقون على كل شيء... ومختلفون أيضاً على كل شيء". إذاً ندور في حلقة مفرغة. ونصرخ، ونغني.
"قدام باب السفارة..."، كما يقول عنها الشاعر عيسى مخلوف في الكتيّب، "مغناة واحدة خرجت من حنجرتين. الموضوع مأسوي، لكن السخرية ساعدتنا على القبض على جمرة مشتعلة. كان الضحك شريكنا في الكتابة. وكم ضحكنا... كم يضحك المرء، أحياناً من الجرح الذي يؤلمه". هو شرّ البلية الذي يُضحك، والبحث عن الهوية الذي يصير كالبحث عن الحب والمرأة. والفيزا التي تصير هاجساً، يحتاجها الجميع في العبور بين الطوائف، وفي الهرب منها. الفيزا، كما يقول الممثل في أول المسرحية، "مثل المرا اللي بالزلط، مثل القمر المضوي". والمرأة العارية والقمر العالي، يصعب الوصول إليهما، وإذا وصلنا، بعد عناء، تكون الرغبة قد خمدت، والأمل قد زال.
رامي الأمين
(ملحق "النهار"، 27 تشرين الأول 2008)