كتاب "ضفاف أخرى"… عزفٌ لا يحتاج إلى آلاتٍ موسيقية

عائشة بلحاج

 

«هناك عزفٌ لا يحتاج إلى آلاتٍ موسيقية. وهناك طريقة في الاستماع إلى الموسيقى، تبدو جزءا منها». هكذا يشرح عيسى مخلوف علاقته بالأشياء، والحياة، والفنون والأدب. عزفٌ مستمر، على أوتار خفيّة، تقود العالم إلى «ضفاف أخرى».
كتابه «ضفاف أخرى»، الصادر عن دار الرافدين، هو عبارة عن حوار مطوّل مع علي محمود خضير، عن الحياة التي عاشها، ويعيشها، وسيعيشها عيسى مخلوف. في نسخةٍ خاصة به، لا تُشبه الآخرين. ولا تسعى إلى ذلك، بل تسير وحدها وفق إيقاعها الخاص، وموسيقاها الخاصّة. من أجل جعل العالم أفضل. لعلّ هذا أكبر هاجس يلاحظه القارئ في"ضفاف أخرى".
(...)

ما قاله عيسى عن الشاعرة والفنانة اللبنانية إتيل عدنان، لا مثيل له في المحبّة والتقدير: «لا تُحصي الوقت ولا تتذمّر من الأيام التي تمضي، لأنها مأخوذة بشيء آخر: البحث عن جوهر الأشياء، وعن سرّ الذات والكون. لكنّ هذا البحث الفلسفي والبحث الشعري معاً لا يلهيانها، ولم يلهياها يوما، عن أحوال العالم الراهن وقضاياه، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ووضع المرأة في العالم أجمع، وفي العالم العربي خصوصاً. هذه النحلة منشغلة برحيق الأزهار، مأهولة لوحاتها بالجبال والوهاد والتلال، بالبحار والشواطئ والخلجان، وبدعوة مستمرة إلى السفر، وعدم الركون والثبات. كتبت عن الجبال قائلة: "الجبال والبحار هي وجهي الآخر. الوجه الأكثر ثباتا في الزمان". هكذا تسابق إتيل عُمرها وتسابق زمنها، بل تعرف أن زمنها غير محدّد بزمن».

شَغَلَ مخلوف مصير الإنسان وبيئته التي تعاني بشدّة من قسوته وأنانيته أحيانا،ً ومن قلة حيلته أحياناَ أخرى. لكن ما يلفت بقوّة أيضاً، هو وقوفه بجانب المرأة. من معرفتي بعيسى، أعرف أنه أكثر من يهتمّ بالمرأة، ويكترث لحقوقها وإنسانيتها، بين الرجال الذين قرأت لهم أو التقيت بهم. إيمانه بالمرأة ليس ذلك الإيمان الفولكلوري الذي يتبناه البعض، أو ذلك الانشغال السطحي العابر بوضعها، بل هو النسوي أكثر من النساء، والقلقُ على إنسانيتهنّ أكثر مما يقلقن هنّ أنفسهن، فهو العارف بشروط العيش الإنساني، روحياً وجسدياً وعلائقياً، يُدرك كم هي ورطة النساء عميقة في عالم ذكوري، ويبدأ من أصغر جزء وأدقّ تفصيل، إلى القضايا الكبرى التي تمسّ المرأة. (...)

وحتى في حديثه عن فنّانات أو كاتبات، يُلامس العمق في عطائهنّ وأرواحهنّ الموضوعة على طاولة الفنّ: «كانت فاني أردن وحدها على الخشبة، تؤدّي نصّاً عنوانه «هيروشيما حبي» لمارغريت دوراس. لم تكن تؤدّي النص بإتقان وحسب، بل كانت تعبّر عن حبّها لها أيضاً، لذلك ذهبت به إلى أماكن بعيدة. لا تنفصل موهبة بعض الممثلات عن وعيهنّ الثقافي"... "وتُعبّر إيزابيل أدجاني، حين تحكي عن الحبّ، عن تجربتها الشخصية في الحبّ، وينصت إليها السامع. لا تخجل أدجاني من نزعتها الرومانسية وهشاشة قلبها، فهي تفصح عن معاناتها وتقول أوجاعها وجروحها بلا تردّد، وتتحدّث عن تجاوز المِحَن، وعن طريقتها الخاصّة في حماية الذات، من الاعتداءات الخارجية المتكرّرة. تركّز على الحبّ الخائب والمعذّب الذي هو، في الغالب، من حصّة النساء». ثمّ، ينشغل عيسى بمصير المرأة العربية، خلال عصر الثورات العربية، التي حمل بعضها إسلاميين إلى الحكم: «بعد سقوط القذافي أطلّ رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل، بهيئته الصوفية السمحة، وهدوء صوته، معلناً اتخاذ بلاده الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، وأشار إلى إنهاء تقييد تعدّد الزوجات بموافقة الزوجة، فبدت المرأة، في هذا الحديث الذي يُكرّس دونية المرأة، في يوم تحرير ليبيا من القذافي، أنها من غنائم الحرب» ...

ويعود إلى الماضي، بادئا بالإشارة إلى "المزج بين الطبيعة والمرأة"، ويلفت انتباهنا إلى «أن الالتفات إلى المرأة وربطها بالمشهد الطبيعي، في الأدب العربي، يركّز، في نسبة كبيرة منه، على جمالها الحسّي الملموس، أي الجمال البدني، غافلاً في معظم الأحيان الجانب النفسي والحياة الداخلية، عازلاً جمالها عن وجودها ككائن يفرح ويحزن ويعاني». ويَخلُص إلى أنّ نصوصاً دينيّة ساهمت في تكريس دونيّة المرأة: «في سفر التكوين، كانت جنّة عدن مليئة بأشجار من كلّ صنف ونوع. في مكان منزّه كهذا، رفع «العهد القديم» قصة آدم وحواء: «كلّ شجرة شهيّة للنظر وجيّدة للأكل» إلاّ شجرة واحدة محرّمة في «وسط الجنّة» هي شجرة معرفة الخير والشر، إنها الشجرة التي تحوّلت معبراً للخطيئة، ومدخلاً للموت ورمزاً لدونيّة المرأة: «إلى رجُلك يكون اشتياقكِ وهو يسود عليكِ».

بحثتُ عن باريس في عيني عيسى مخلوف، ووجدتها كثيفة ولافتة في «ضفاف أخرى»: "باريس متحف مفتوح". (...) حين سمّى عيسى كتابه ضفافاً أخرى، كان يعني أنه سيقف عند الضفاف التي تشغل الإنسان المعني بالفنون والجمال والإنسانية، لأنّ كل ذلك لا يتجزأ، وأنه سيواصل مساره شاعراً ورائياً ومفكّراً في الكلمات، والأشياء، والإنسان... هو صانع الكلمة ومتلقّيها، كيف يتدبّر حمله من الكلمات، وكيف يعتني بشجرتها. هنا أقول ما تمنّيت أن يكون، وهو أن تطول بعض الأجوبة التي كانت بالغة التركيز، رغم أنها تُعنى بمسألة جوهرية... الضفاف التي وقف عندها عيسى مخلوف زاخرة وعميقة وخصبة تستحقّ الإطالة والتمهُّل في اكتشافها. العزاء أنّ كتباً مقبلة أخرى ستواصل الشرب من النهر الكبير للشعر والفنّ والجمال والفلسفة، الذي يغترف منه عيسى مخلوف.

 

(صحيفة "القدس العربي"، 15 كانون الأوّل/ ديسمبر 2021)