يستعمل بعض شعرائنا الكبار اليوم اللغة التي كتبوا بها أجمل قصائدهم ليدافعوا بها عن الأنظمة البائدة، وليحذرونا مما سوف يأتي. يقولون إن الثورة حصلت ولم يحصل التغيير، كأن التغيير سيتحقق في لحظة واحدة، وكأن الخروج من الأرض الخراب سيتم الآن وبلمح البصر.
في غمرة الغرائز المستيقظة، لاح لنا عنف سعدي يوسف الذي كتب في الآونة الأخيرة - بلغة عملَ كعادته على تشكيلها لتكون أشد وقعاً - نصاً تفوح منه رائحة القتل ويدفعك الحقد الذي فيه إلى تفقّد عينيك بعد قراءته. من قال إنّ المعارضة لا تخطئ وإنّ برهان غليون لا يخطئ، لكن هناك طريقة في النقد والانتقاد وإلاّ أصبحت الكتابة طريقة أخرى في اعتقال الحرية وكمّ الأفواه.
لغة «دبقة» مبتذلة يستعملها سعدي يوسف الذي يستشهد بعبارة لمفتّش وطني في الداخليّة الفرنسية: «إنّ كلّ المثقّفين العرب يتعاملون معي». ويؤكّد لنا الشاعر أنه رفض عرض التعاون مع الأمن الفرنسي مقابل إقامته في فرنسا، ما يعني، بحسب رأيه، أنه المثقف العربي الوحيد الحر والنزيه. وهو لا يتوقف عند هذا الحدّ بل يذهب أبعد ذلك فيستعمل محمود درويش شاهداً في حربه ضد خصمه.
إنها اللغة التي لها وقع اقتلاع الأظافر وجزّ الأعناق، وهي ليست فقط لغة شاعرنا بل لغة عدد من الكتّاب والصحافيين على امتداد العالم العربي، وفي لبنان بالأخص حيث يعتبر هؤلاء أنّ الذين يُعتقلون ويموتون بالآلاف، وبينهم مئات الأطفال، لا يحتاجون كما بقية شعوب الأرض إلى الحد الأدنى من حياة كريمة بل هم مجموعة من الخونة والمندسين.
لقد درج بعض المثقفين اللبنانيين، في الآونة الأخيرة، على انتقاد العنف الذي يمارسه النظام في سوريا، لكنه انتقاد لا يرقى على الإطلاق إلى الانتقاد الموجّه إلى معارضي النظام، بل انّ إيهام هذا البعض بأنه ينتقد النظام ما هو إلا محاولة منه لإضفاء طابع الموضوعية على كلامه والظهور بمظهر الناقد المحايد فيما هو يغطي الجرائم إما بِصَمته أو بتبريره القتل. إنّ الذين يضعون الجلاد والضحية على مستوى واحد إنما يدافعون عن الجلاد ويعتبرون مجازره مآثر. لكن لا يمكن هؤلاء، بأي حال من الأحوال، تغطية الجريمة بإحالتنا على برنار هنري ليفي مثلاً وهم الأقرب إليه، برنار هنري ليفي يدافع عما تقترفه إسرائيل بحق من تعتبرهم أعداءها، فيما هم يدافعون عمّا يقترفه نظام الاستبداد بحق شعبه.
في موازاة الانكشاف الكامل لهذا النظام الذي يقدّس نفسه ولا يقبل إلا بالأبد شريكاً له (وهو لا يختلف إلا بدرجة عنفه عن بقية الأنظمة العربية)، يتكشف موقف عدد كبير من المثقفين الذين وقفوا منذ اللحظة الأولى ضد التغيير وحذّروا من الحركات الدينية المتشددة. لكن من منا لا يعرف أنّ الأنظمة العربية هي التي عبّدت الطريق نحو الأصوليات والتشدد، وذلك في غياب دولة ديموقراطية تعددية تؤمن بمبادئ الحرية والمساواة وتعتمد على سياسة تربوية وتعليمية عصرية وتعمل على إرساء مشروع نهضوي يدفع نحو التقدم ويساعد على مواجهة التحديات والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم.
إنّ الذهنية السياسية التي ادعت محاربة الأحزاب الدينية والتيارات الإسلامية ظنّت أنها قادرة على التخلص من هذه الأحزاب والتيارات من خلال تصفية أفرادها، بينما الحلّ هو في القضاء على الظروف التي أنتجتها والتي تنمو في كنفها، وهذا ما يتعذّر، بالتأكيد، على قوى سياسية اعتادت على نهج الحلول الأمنية والترهيب والقمع ظناً منها أنه الخلاص الوحيد.
")السفير"، 23/12/2011(