لم أعرف كيف أحصي الحشد الذي سكن منتظراً أن تطفأ الأنوار نسبياً بحيث لا يبقى سوى نور مؤنس ونسيم طري خلناهما صاعدين من أنفسنا قبل أن تبدأ مسرحية <<مهاجر بريسبان>>. لم أدر ما الذي جعل آلافاً مؤلفة تتكبد أربع ساعات من السفر لترى "مهاجر بريسبان". بيني وبين نفسي تعجبت من اختيار هذه المسرحية لمهرجان كبعلبك. كنت أقول في سري إن سوء تفاهم سيحدث بين جمهور واسع وعمل حساس موجود بمعجزة في نقطة توازن لا تحتمل وكزة. نص شحادة في الشعرة التي هي بين الشعر والبراءة. بين الحكاية والدراما. بين الفكاهة والهذر. بين التخييل والفكرة. بين الحلم والكذب. في الشعرة التي معها يكون كل خطأ فادحاً، وكل تعارض اختلالاً وكل زيادة إفراطاً، وكل تلاعب سخفاً. شحادة حين ينهي نصه يكون قد استنفده تقريباً فلا يترك لمخرجه فسحة كبيرة. ذلك أنه مسرح يولد كالشعر من صدف الصوت وصدف الخيال وصدف الكلام، ويبقى لذلك مهما شاء مخرجه مسرحاً كلامياً بامتياز. ربما لذلك يحدث مسرح شحادة ما يحدثه الحلم، يتكوّن بمعجزة ويختفي بسرعة، وربما لذلك يبدو المخرج ضنينا بكلام شحادة تاركاً له أن يخلق الصور. تعجبت من اختيار مهاجر بريسبان بعد كل هذا الوقت في بلد صار من زمن في القاع. وغدا الكلام الخفيف فيه غير مسموع وعليك أن تحمل كلاما يصر ويحز ليجد مسمعاً. في بلد احترقت فيه طبقات الخيال والذاكرة واللغة ولم يعد سهلاً أن توقظ فيه الناس بجرس أو نفخة. لم يعد ممكناً فيه تكوين عالم هارب من نسيم وغيم وصور. لم أقل هذا لنبيل الأظن ولا لعيسى مخلوف. صادفت عملهما في وسطه فلم أفعل سوى أن أتذوق معهما ثانيةً شحادة. والبارحة صعدت إلى بعلبك. جلست وتعبت من أن أحصي فقلت إنهم بالألوف. وعلى ليلتين هم يقيناً بالألوف. كنت أخشى أن ينقطع التوازن في أي لحظة. أن ينقطع الخيط السحري والشعرة التي بين جدران بعلبك المضاءة بلون الآجر والجمهور، كنت أخشى أن ينقطع الإصغاء. كنت أخشى أن ينقطع الصمت ففي مسرح شحادة مكان للصمت. مكان لذلك النسيم الذي يهب طريا والضوء الباقي في الجو، لم يخدش شيء، لا الحلم ولا الصمت ولا التوازن. لقد نجا الجمال.
عباس بيضون
")السفير"، 26 تموز/ يوليو2004 (