منذ زمن طويل لم أسمع بكلمات تشبعني، تروي غليلي، أو تطفئ عطشي إلى الحقيقة كتلك التي كتبها عيسى مخلوف على ظهر كتابه الأخير. كان ينبغي أن تنتظر طويلاً لكي ترى أمام عينيك كلمات لها معنى في الثقافة العربية. قد أكون أبالغ قليلاً أو كثيراً إذ قليلاً هذا الكلام المندفع أكثر من اللزوم. وأنا فعلا أبالغ بسبب الحماسة والاندفاع. فهناك آخرون في الساحة غيره ويمشون في نفس الاتجاه وإن بطرق وأساليب مختلفة. هناك مثقفون عرب مهمون جداً ويمشون في الاتجاه الصحيح: اتجاه المستقبل. وعيسى مخلوف ليس الوحيد في الساحة الثقافية العربية لحسن الحظ. ولكن لنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة وكيف نجح الكاتب في تشخيص الإشكالية الكبرى للثقافة العربية في عبارات قليلة مقتضبة:
"يبقى السؤال : ماذا تعدّ المجتمعات العربية والإسلامية لنفسها من أجل مواجهة التحديات الكبرى المتعاظمة ومن أجل بلوغ حوار متكافئ مع الثقافات الأخرى؟ طبعاً ليس الموروث السلفي ولا تقديس الأجداد ما نحتاج إليه الآن. وإذا كان لا بد من الالتفات إلى الماضي فليكن إلى جوانبه المضيئة، العقلانية والجمالية فحسب، أي إلى الماضي الذي ينظر إلى المستقبل، لا الماضي المحنط والمنغلق على نفسه كالقبر.
نحتاج إلى ولادة أخرى، إلى أبوين آخرين بعيداً عن ذهنية التكفير والتخوين".
هذه الكلمات القليلة تحتوي على برنامج عمل متكامل لكل المثقفين العرب ولكل الحقبة القادمة التي قد تمتد حتى عام 2050 أو 2100! ذلك أن الكلام شيء والفعل شيء آخر. من السهل أن نقول بأنه ينبغي أن نأخذ من الماضي – أي من التراث العربي الإسلامي-قيمه التحررية أو العقلانية فقط. ولكن المشكلة هي أن قيمه المعاكسة (أي القمعية المتعصبة) هي التي تملأ وعينا الجمعيّ وتشرّش في عروقنا وخلايانا. القيم السالبة التي تشد إلى الخلف هي الأقوى وليس القيم الموجبة التي تشد إلى الأمام.
وبالتالي فأين المفرّ يا عيسى مخلوف؟
لكي نستطيع أن نتوصل إلى الجوانب المضيئة والعقلانية من التراث ينبغي أن نتخلص أولاً من الجوانب المظلمة والعدوانية التي تهيمن علينا منذ انهيار الحضارة الكلاسيكية قبل ثمانية قرون (تاريخ موت ابن رشد وهزيمة الفلسفة يعود إلى 1198م.) لهذا السبب أقول وأكرر القول بأن التحرير المنتظر ينبغي أن يمرّ بالمرحلة السلبية أولاً قبل أن يتوصل إلى المرحلة الإيجابية. ينبغي أن نمر بمرحلة التفكيك والتعزيل الكبير قبل الوصول إلى مرحلة البناء والتعمير.
ولذلك أقول بأن الانهيارات التي تحصل الآن هي انهيارات إجبارية، أي منطقية مسجّلة في أحشاء الواقع وكان ينبغي أن تحصل وتنفجر. ولن تتوقف قبل أن تشبع من نفسها، قبل أن تصل إلى نهاياتها. على هذا النحو أفسر "اللحظة الأصولية" التي نعيشها اليوم. إنها عبارة عن انفجار للمتراكم التراثي السحيق المتكدس في أعماق أعماقنا. ولن يستريح التاريخ، ولن يتنفس الصعداء إلا بعد أن تقذف أحشاء اللاوعي الجمعي بكل هذا المتراكم المكبوت، بكل هذا المحتقن المضغوط الذي ظننا أننا تجاوزناه أثناء مرحلة اليسار السطحي الهش في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. فإذا به ينفجر في وجوهنا كالبركان بعد السبعينات. بمعنى آخر فإن العمل الحقيقي ابتدأ الآن لأن المواجهة الشرسة للذات العربية الإسلامية مع ذاتها ما عاد ممكناً تأجيلها أو تحاشيها... وهذه نقطة متقدمة في حركة التاريخ وإن كانت تبدو ظاهرياً بمثابة ارتكاسة أو عودة إلى الوراء. أقول هذا الكلام انطلاقاً من النظرية التالية: لا يمكن للتاريخ أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام إلا بعد أن يصفّي حساباته مع نفسه ويعزّل تراكماته التي تضغط عليه وتثقل كاهله وبالتالي تعرقل رغبته العارمة نحو الانطلاق والتحرر (...)
*)من دراسة حول "تفاحة الفردوس" صدرت في مجلة "نزوى"، العدد 49، 2007(