"ما أرويه اليوم هو الحكايات التي كنت أترقب أن يرويها لي أحد. ما أرويه ليس إلاّ جزءا مما لم أر ولو رأيت لما رويت".
هكذا يفتتح الشاعر عيسى مخلوف كتابه "عين السراب" الصادر حديثاً بالفرنسية عن دار جوزيه كورتي الشهيرة تحت عنوان "سرابات". ما ان وصلتني نسختي المهداة من القلب حتى اتصلت بالشاعر لأخبره أني كنت مأخوذاً بقراءة غيفيك Guillevic الشاعر الفرنسي الكبير.
وقلت لعيسى ان بينهما أكثر من سراب، فالفرنسي يصدر ديوانه بما يلي:
"عندما أكون وحدي أتكلم،
لا تسألني ماذا أقول
قد أجيبك لو أني أعرف
ولو كنت أعرف لما احتجت لأن أتكلم".
في عين السراب أو "سرابات" تقرأ في عيسى مخلوف لبنان الإنسان، لبنان المسافر في اللغات، في الشعر، في الموسيقى، في مجمل الفنون وفي تعددية الكون والتاريخ.
تقرأ كل الديانات السماوية وما قبلها وما بعدها، تقرأ جلجامش وألف ليلة وليلة، تبتدئ بصاحبه ودليله الأرجنتيني الأعمى بورخس وتنتهي بأم عيسى، وفي صحبة هؤلاء الثلاثة ترى ما لا يرى وتسمع ما لم تسمع من قبل. تقرأ شعراء تعرفهم ولا تعرفهم، تسمع الموسيقى التي سمعتها سلفاً وكأنك لم تسمعها من قبل، لأنها هذه المرة مليئة بألوان لبنان وجباله التي لم يرها أحد قبل هذا النص.
جاءت عين السراب أو عين الشمس كما أرى، امتداداً لسرابات وأسفار قديمة في إنتاج عيسى الإبداعي.
في كتابه "عزلة الذهب" الصادر عن دار الجديد عام 1992م وهو نصوص مكتوبة ما بين 1984- 1987م في باريس، نجد في هذه العزلة نصاً بعنوان السراب، وبمدخل أخاذ للصديق المشترك أنسي الحاج:
"ليس في جواري مركب لأخشى الإنقاذ".
نختلس منها هذا المقطع: "أهكذا كلما اختلط النور بدمائنا
ننفصل عن ظلالنا
نرتعش برهة قبل أن يستيقظ فينا الرماد"؟
وفي العزلة أيضاً نص عن السفر ومنه "انبسط أيها المدى
لا مكان لقمة على كفك".
بين "عزلة الذهب" و"عين السراب" أكثر من شمس وأكثر من حب، وفي سراباته الفرنسية سيجد الفرنسيون أنه "لا سراب في السراب".
كما صرخت إحداهن بعد قراءة النص.
صدرت "سرابات" برعاية عيسى مخلوف الذي لا يمكن أن ينام وفي عالمه خيط أسود، وبترجمة نبيل الأظن الذي أنجزها كمقطوعة موسيقية نادرة، وتصدّر أدونيس الغلاف الأخير بكلمة حميمة عن نص متعدد. ولم ينس عيسى أن يشكر الشاعرين الكبيرين اللبنانية ايتيل عدنان واللبناني صلاح ستيتية اللذين قرأا النص الفرنسي قبل أن يذهب إلى المطبعة ليلتقي في هذا الكتاب خمسة أسماء كعادة عيسى الذي لا يملك شيئاً لذاته في هذه الحياة.
صدرت "سرابات"، ستجد مكانها حتماً في فرنسا وخارجها وستجد من يقول بعد قراءتها "يا ليتني كنت سراباً".
)جريدة "الرياض"، 19 شباط/ فبراير 2004 (