كتاب بين شعر وتأمل وبوح، بين غياب وحاضر، بين إنسان وحجر، صدر عام 2004 عن "دار النهار" بالعربية وعاد مولودا جديدا منقولا إلى الفرنسية بقلم الشاعر المغربي عبد اللطيف لعبي. "رسالة إلى الأختين" هو نشيد للحياة، الحياة في ارتفاعها عن المألوف اليومي إلى كونية مطلقة، تغسل الأشياء المنظورة والمحسوسة، بمياه الينابيع الدافقة من سفر التكوين حتى حكاية الحجر والموسيقى والمرأة وذلك العشق الأبدي الذي ينوّر درب الشاعر ويجعله يتناول من أكسير الدنيا صفوته.
عيسى مخلوف في "رسالة إلى الأختين" يسمح للقارئ بأن يطلع على محتواها، وفي القراءة من كسرة مقطع إلى أخرى، لا بد أن تتماهى لغة الحب لامرأة لتكتسي برؤى كونية شاملة منسوجة على خيوط الواقع والحلم: "أمس رأيتك في المنام. رأيتُنا نخرج معاً من المنام الواحد. تكثر من حولنا العيون. تلك العيون المندهشة ككاتدرائيات من دمع". المرأة تلك التي كتب إليها رسائله، هي من نبض الوجود المحيط به، من زبد الأمواج مسام بشرتها، من نسغ الأزهار شفتاها، من حاضر وماض هي، من لقاء ووداع، هذه التناقضات التي تنجبل في أليافها الحياة، الهنا والهناك، البوح والصمت، وهذا الخطاب ـ كما يقول ـ يغدو من فرط نقاوته، مستحيلة قراءته.
المدينة بشوارعها، بحدائقها، بمتاحفها، بكاتدرائياتها محجّة. حجّاجٌ عيسى مخلوف، يجعل من تجوالاته معبده، ترافقه هذه الحاضرة في الذاكرة وإن كلّمها بصيغة الماضي، فبرفقتها، تغدو الموسيقى أكثر مفعولا في النفس، والحجر المنحوت امرأة يتكلّم بصوتها وأحاسيسها. ويبقى ينتظر عودتها، بهذا التألق الروحاني حيث "كل شيء هو الله": الغيمة والجبل، الواحة والسراب، الزهرة والشوكة، الحَمَل والأسد، الحيّة والعصفور..." من رسالة إلى أخرى، تتغير مواسم الحب، يصبح للجسد جسد وللعلاقة عطر امرأة حقيقية، ومن مقطع إلى آخر يؤول العطر هذا إلى ذبول والحب عابرا. نسمعه يقول حين يوشك على نهايته: "كان كلّ منّا قد استكمل علاقته بالآخر وعاد إلى ذاته. كان كلّ منّا يشعر، في قرار نفسه، بشيء من الغبطة يتأتّى من شعور بالخلاص". هي عجينة الوقت بين أصابعه يدعكها، يجبلها، يقولبها من عناصر وجودية ضرورية لعافية فكره، ملحّة لإرضاء قلقه المنقّب كعالم آثار في خفايا الكون يستنبط اللامرئي ويظل مشدوها أمام جمالية الملموس وسر وجوده. كتابه ليس فكرة رئيسية لموضوع وإن دلّنا العنوان إلى رسالة إلى الأختين، فتظل الثانية من رسالة إلى أخرى شبه مبهمة حتى لنظنها المرسل بذاته، ويبقى سر الأختين في قلب الشاعر. من صفحة إلى أخرى يفتح لنا عيسى مخلوف نوافذ مضاءة على عالم من الصعب الإمساك به، يفلت من يدك حالما تحاول الإمساك به. عالمه سرّه، والأسرار المحيطة به، هي ذلك التحدي الذي يواكب اختباراته الباطنية والمقشوعة، ويبقى ذلك التائه في دنيا الإبداع، يستمد من الخلق قوته وتبقى شهيته نهمة لا تشبع من هذا الرغيف الذي له طعم الحب والنغم والكلمة والألوان والدهشة أمام الجمال. أليس هو في كل كلمة كتبها، شاعرا وحبيبا وفنانا وموسيقيا؟ كأنه في مسامها يشيّد كاتدرائية، كأنه يحوّل قلمه إلى إزميل وينحت في حجر الورقة قدر امرأة، قدر رجل وامرأة، كأنه يستعيد في أقوال الفلاسفة ذاكرته الدهرية. كسرب عصافير كتاباته، تحلّق بين سماء وأرض ناسجة في ذهاباتها وإياباتها ما يغني العقل ويثقف النفس. راوٍ هو، يغوي بكلماته، يأسر الانتباه بالتفاصيل التي يكوّن منها جمالية إنشائه، تلك الجمالية التي هي مبدأ تنقيبه في أسرار الوجود بلا ملل، وفي عينيه وفي فكره ألف سؤال وسؤال كتلك التي يسألها الأطفال وعيونهم تغالب النعاس: "من يعطي إشارة للمطر كي يتساقط وللريح كي تنطلق؟". المتأمل في عظمة الخلق واثق من أن هذا الذي يده على الزرع وأخرى على الصاعقة، "إذا شاء جعل الأرض بحراً من الدماء، وإذا شاء غمرها ورداً وسكينة. بإشارة منه يتحرّك بيننا ماءٌ حيّ". لقد دعانا في هذه النزهة الوجودية التي تصنع جمال الروح، وهو في حاجة إلى رفيق يشهد ما يشاهده ويسمع ما يسمعه.
سؤال آخر يسأله ليثبت لورقته أنه في صدد كتابة رسالة: "هل يمكن أن نكتب إذا لم يكن هناك مَن نكتب له؟ أكتب لك اليوم. على هدي مصباحكِ البعيد يأخذني نورُه إلى المطارح التي تعرفينها بحدسِك".
مي منسى
(صحيفة "النهار"، 31 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2008)